تاريخ

الخلفاء العثمانيون .. عُثمان خان الأوَّل بن أرطُغرُل بن سُليمان شاه القايوي التُركماني

الخلفاء العثمانيون .. عُثمان خان الأوَّل بن أرطُغرُل بن سُليمان شاه القايوي التُركماني

ايفا بوست – وكالات

هو زعيم عشيرة قايى التُركيَّة وعامل سلاجقة الروم على إحدى إمارات الثُغور الأناضوليَّة ومُؤسس السُلالة العُثمانيَّة التي حكمت البلقان والأناضول والمشرق العربي وشمال أفريقيا طيلة 600 عام إلى أن انقضى أجلها مع إعلان قيام الجُمهوريَّة التُركيَّة سنة 1922م.

ولد عثمان الأوَّل سنة 656هـ الموافقة لِسنة 1258م، للأمير أرطغرل الغازي، عامل سلاجقة الروم على إحدى الثغور المُطلَّة على بحر مرمرة، وحليمة خاتون.

وصودف أن يولد في ذات اليوم الذي غزا خلاله المغول مدينة بغداد عاصمة الدولة العبَّاسيَّة وحاضرة الخِلافة الإسلاميَّة، الأمر الذي جعل المؤرخين العثمانيين اللاحقين يربطون بين الحدثين بِطريقةٍ دراماتيكيَّة.

عثمان ابن أرطغرل – صورة تعبيرية

تولّى عثمان شؤون الإمارة وزعامة العشيرة بعد وفاة والده، فأخلص الولاء للسلطنة السلجوقيَّة الروميَّة على الرغم مما كانت تتخبَّط فيه من اضطراب وما كان يتهدَّدها من أخطار.

وفي سنة 1295م شرع عثمان بمهاجمة الثغور البيزنطيَّة باسم السلطان السلجوقي والخليفة العبَّاسي، ففتح عدَّة حصون وقاد عشيرته إلى سواحل بحر مرمرة والبحر الأسود.

وحين تغلَّب المغول على سلاجقة الروم وقضوا على دولتهم، سارع عثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة، فكان بذلك المُؤسس الحقيقي لِدولةٍ تركيَّةٍ كبرى نسبت إليه فيما بعد، فعرفت بالعثمانيَّة.

وظلَّ عثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سلطانًا مُستقلًّا حتَّى سنة 1326م. وفي هذه السنة فتح ابنه أورخان مدينة بورصة الواقعة على مقربة من بحر مرمرة.

وكان عثمان في هذه الفترة قد مرض مرض الموت، وما لبث أن توفي، فنقل جثمانه إلى بورصة ودفن فيها، الأمر الذي جعل للمدينة رمزيَّة كبيرة عند العثمانيين لاحقًا.

أمَّا خلفائه وذريَّته فقد تابعوا الحملات التي بدأ فيها حتَّى أواسط القرن السَّابع عشر الميلاديّ، مُحولين الإمارة التي وضع أسسها إلى إمبراطوريَّة عالميَّة.

رغم شُيوع لقب «السلطان» أو «الپاديشاه» والتصاقه بعثمان الأوَّل إلَّا أنَّه لم يكن سُلطانًا فعليًّا في زمانه، وإنما لقب بذلك لاحقًا لاعتباره مؤسس سلالة السلاطين العُثمانيين.

اشتهر عثمان الأوَّل ببساطة العيش والملبس لِتأثره بِمُعتقدات الدراويش الصوفيَّة، وكان بعيدًا عن الترف والبذخ، فحافظ على نمط حياته كشيخٍ لِعشيرة قايى.

وحافظ على التقاليد التركيَّة القديمة التي تحكم العلاقة بين الشيخ وأفراد العشيرة، وهي تقاليد سابقة على الإسلام لم يهجرها الترك لِعدم تعارضها مع تعاليم الشريعة الإسلاميَّة.

خلف عثمان أباه أرطُغرُل بعد وفاته، وتولّى زعامة الإمارة العتيدة وعشيرة قايى وهو في سن الرابعة والعشرين على الأرجح.

ووفقًا لما اتفق عليه عددٌ من المؤرخين فقد كان تولّي عُثمان للإمارة لا سلمي، فقيل أنه دخل في معركةٍ على العرش مع أقاربه لِيزيحهم من دربه أولًا.

أما ماهيَّة هذه المعركة ومع من كانت وكيف تطوَّرت فأمورٌ مُثيرةٌ للجدل ووجدت حولها حكاياتٌ تاريخيَّةٌ اختلفت باختلاف المؤرخين.

وقد نصت أغلب الروايات على أنَّ أحد أطراف تلك المعركة كان عم عثمان وهو «دوندار غازي»، إذ اعتبرته سائر العشائر أحق بالإمارة من ابن أخيه، فيما دعم المحاربون والفرسان عثمانًا.

ولا يعرف على وجه التحديد كيف اشتعلت نيران هذه المعركة ولا كيف استمرت أو أي شكلٍ اتخذت. إلَّا أنَّ عثمان انتصر فيها وقتل عمه العجوز برمية سهم.

تنص المصادر العثمانيَّة على قصَّةٍ حدثت في بداية عهد عثمان، علَّق عليها المؤرخون المسلمون قديمًا (وخصوصًا الأتراك) الكثير من الأهميَّة لِرمزيَّتها.

على أنَّ المؤرخين المعاصرين يتفقون على أنَّ هذه القصة ليست أكثر من وسيلة لِتعليل ظهور وتقدُّم الدولة العُثمانيَّة وإحاطة هذا بهالةٍ روحانيَّة.

لا سيَّما وأنَّ خُلفاء عُثمان حققوا الكثير من المنجزات الهامَّة، فتمكنوا من توحيد البلاد الإسلاميَّة بعد قرونٍ من تمزّقها.

وأعادوا إحياء الخلافة الفعليَّة بعد أن أصبحت خلافة صوريَّة تحت حماية سلاطين المماليك بِمصر منذ أن قتل المغول المستعصم بالله آخر خُلفاء بني العبَّاس في بغداد.

وحققوا ما لم تقدر عليه أيَّة سلالة إسلاميَّة أُخرى، ألا وهو فتح القسطنطينيَّة وتخطوها إلى أوروپَّا الشرقيَّة. أضف إلى ذلك المصادفة حيثُ تختصر تلك القصة أحداث قرنين من حياة الدولة العثمانيَّة قبل أن تقع.

العلاقات السياسيَّة في بداية عهد عثمان

جرى ربط ظُهور عُثمان على الساحة السياسيَّة، واكتسابه لِوصف زعيم الجهاد بالعلاقة التي ربطته بالشيخ “أدب بعلي”

التي توِّجت بالمصاهرة كما سلف.

ويميل بعض المُؤرخين إلى اعتبار زواج عُثمان بإبنة هذا الشيخ أوَّل خُطوةٍ سياسيَّةٍ بارعةٍ منه، إذ أنَّ هذا الشيخ كان قائدًا

لِلفرقة البابائيَّة المنسوبة إلى بابا إسحٰق الذي قاد ثورةً ضدَّ سلاجقة الروم منذ حوالي سنة 1239م إلى أن قبض عليه وشنق سنة 1241م.

وتفسِّر علاقة المُصاهرة بين العثمانيين والشيخ القائد لِهذه الجماعة، علاقة العداء التي قامت بين العثمانيين وبين إمارة كرميان.

فالمعروف أنَّ أسرة كرميان قد كوفئت من قِبل السلاجقة بِسبب خدماتها في إخضاع الثورة البابائيَّة.

أظهر عثمان، في بداية عهده، براعةً سياسيَّةً في علاقاته مع جيرانه.

حيث التحالفات تتجاوز الخُطوط القبليَّة والإثنيَّة والدينيَّة، ورُبما تبع في ذلك غريزته ومتطلبات تطلُعاته السياسيَّة،

إلَّا أنهُ لم يخطئ في تقدير النتائج المستقبليَّة لِلعلاقات العائليَّة التي أقامها لِنفسه وضمنها لابنه من بعده.

فأعاد تشكيل الثقافة السياسيَّة لِسلاجقة الروم بما يتوافق مع حاجات إمارته، فكان أكثر إبداعًا من جيرانه التُركمان

في عمليَّات الدمج بين التقاليد التُركيَّة والإسلاميَّة والبيزنطيَّة.

وتعاون عُثمان مع جيرانه البيزنطيين من قادة المُدن والقُرى الروميَّة، فكانت عشيرته حين تنتقل بين مناطق الرعي في الصيف تترك حاجيَّاتها في قلعة «بيله جك» البيزنطيَّة.

وعند عودتها كانت تُهدي مسؤولي هذه القلعة عربون تقدير لِخدماتهم، من الجبن وزُبدة الحليب المحفوظة في جُلود الحيوانات، والسجَّاد الجيِّد، الأمر الذي يعكس علاقة التعايش بين الرُعاة والمُزارعين أو ساكني المُدن.

وشكَّلت علاقة الصداقة بين عُثمان و«كوسه ميخائيل» حاكم قرية هرمنكايا ذُروة هذا التعايش والامتزاج بين المُسلمين والروم. أمَّا علاقاته بِخُصومه من الجماعات الإثنيَّة الأُخرى كالمغول.

الذين انتقل مُعظمهم إلى مناطق الأطراف في غربيّ الأناضول، والكرميانيين؛ فقد كانت عدائيَّة لأنَّ التُرك بِعامَّة

كانوا في حال عداء مع المغول.

ثُمَّ أنَّ الكرميانيين كانوا من غير الغُز (الأوغوز) على الأرجح، فقد اصطدم مع «جغدار»، أحد قادة المغول في أرض كرميان،

والواضح أنَّ الصراع مع المغول والكرميانيين كان أشد في أوائل عهد الإمارة.

تمدُّد الإمارة العُثمانيَّة .. الغزوات الأولى وفتح قلعة قراجة حصار

كان على عُثمان، بعد أن ثبَّت أقدامه في إمارته، أن يُكافح على جبهتين: الجبهة البيزنطيَّة، وجبهة الإمارات التُركمانيَّة

التي أبدت مُعارضةً له وبخاصَّة الإمارة الكرميانيَّة.

وقد وضع نصب عينيه توسيع رقعة إمارته على حساب البيزنطيين أولًا، ومُنذ تلك المرحلة أصبح الهدف الأساسي

للإمارة العُثمانيَّة هو اتباع سياسة الفتح التي ترتكز على مفهوم الغزو والجهاد ضدَّ ديار الروم.

وتُشيرُ بعض الروايات إلى أنَّ أوَّل غزوة شنَّها عُثمان ضدَّ الروم كانت بهدف الثأر من هزيمة حلَّت به سابقًا في منطقة

«أرمني – بلي» أي «تلَّة الأرمن» في ربيع سنة 683 أو 684 هـ المُوافقة لِسنة 1284 أو 1285م.

حيثُ كمن لهُ البيزنطيّون بِقيادة «تكفور» عامل بورصة، وعلى الرُغم من أنَّ عُثمان عرف بأمر الكمين من أحد الجواسيس

إلَّا أنه آثر الالتحام مع البيزنطيين.

فانهزم واضطرَّ إلى الانسحاب وخسر بعض رجاله من ضمنهم «صاروخان بك خوجة» ابن أخيه «صاووجي بك».

وبناءً على هذا، توجَّه عُثمان حوالي سنة 685هـ المُوافقة لِسنة 1286م على رأس قُوَّة عسكريَّة قوامها ثلاثُمائة مُقاتل

إلى قلعة «قولاجه حصار» التي تبعد فرسخين عن مدينة «إینه‌گول».

في نطاق جبل «أميرطاغ» وهجم عليها ليلًا وتمكَّن من فتحها، وبذلك ازدادت إمارته اتساعًا في اتجاه الشمال لامتداد

بُحيرة إزنيق. أثار انتصار العُثمانيين في قولاجه حصار حفيظة عامل الروم على المدينة.

فلم يرضى أن يكون تابعًا وخاضعًا لِأميرٍ حُدوديٍّ مُسلم، فتحالف مع عامل قلعة «قراجة حصار» واتفقا على قتال المُسلمين واسترداد ما غنموه من أراضٍ بيزنطيَّة، والتقى الجمعان في «إكزجه» الواقعة بين «بيله جك» و«إینه‌گول».

حيثُ دارت معركةً طاحنة قُتل فيها «صاووجي بك» أخو عُثمان، لكنها أسفرت عن انتصار المُسلمين، ودُخولهم قلعة

«قراجة حصار»، ومقتل «بيلاطس» قائد القُوَّات البيزنطيَّة.

ويُروى أنَّ العُثمانيّون، حوَّلوا للمرَّة الأولى، كنيسة تلك البلدة إلى مسجد، قُرئت فيه أوَّل خِطبة؛ وعُيِّن فيه أوَّل قاضٍ وصوباشي (حاكم) للمدينة.

واختلف المُؤرخون في تحديد تاريخ فتح هذه المدينة، على أنَّ أحدًا لم يجعل الفترة تسبق سنة 685هـ (1286م) أو تتخطى سنة 691هـ (1291م).

وجعل عُثمان مدينته الجديدة قاعدةً له للانطلاق نحو بلاد الروم، وأمر بإقامة الخِطبة باسمه، وهو أوَّل مظهر من مظاهر السيادة والسُلطة.

فتح قلاع بيله جك ويار حصار وإینه‌ گول

بعد تمام فتح قلعة «قراجة حصار»، سار عُثمان بجُنوده ناحية شمال صقارية، فأغار على قلعتيّ «گوینوك» و«ينيجه طاراقلي» وعاد مُحمَّلًا بالغنائم.

وفي تلك الفترة، تنص الروايات العُثمانيَّة على أنَّ عُثمانًا تلقَّى تحذيرًا من صديقه الرومي «كوسه ميخائيل» حاكم قرية هرمنكايا مفاده أنَّ مُؤامرة سريَّة أُحيكت ضدَّه من قِبل صاحبيّ قلعتيّ «بيله جك» و«يار حصار» الذان هدفا إلى القبض عليه وقتله بعد أن دعياه إلى حفل زفاف ولديهما الكائن في القلعة الأولى.

فما كان من عُثمان إلَّا أن دبَّر بعض الدسائس الحربيَّة، فأرسل أربعين فارسًا من فُرسانه إلى الحفل مُتنكرين بأزياء النساء، وما أن دخل هؤلاء «بيله جك» حتَّى كشفوا عن هويتهم.

فتمكنوا من أسر كافَّة المدعوين بما فيهم العروسين، وفتحوا القلعة علنًا. ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه الوقعة أُسرت فيها امرأة قيل بأنها ابنه تكفور، تُدعى «هولوفيرا»، سُميت لاحقًا «نیلوفر خاتون».

واصطفاها عُثمان لابنه أورخان، فتزوجها وأنجبت لهُ مُراد، لِتكون بذلك أوَّل امرأة أجنبيَّة في قُصور آل عُثمان.

سعى عُثمان بعد فتحه قلعتيّ بيله جك ويار حصار إلى القضاء على صاحب إینه‌گول الذي حالف عامل قراجة حصار على العُثمانيين سابقًا، كي يحول دون إبرام أي تحالُفٍ آخر بين بقايا الإمارات البيزنطيَّة في الأناضول.

فبادر إلى إرسال أحد قادة جيشه، ويُدعى «درغوث ألب»، لِمُحاصرة قلعة إینه‌گول، ثُمَّ التحق به، وتمكَّن من فتحها. وهُناك رواية تذكر أنَّ عُثمان منح هذه القلعة إلى درغوث ألب.

ولِذلك سُميت البلدة فيما بعد «طورغود» (اللفظ التُركي لِدرغوث العربي) تيمُنًا بأوَّل أميرٍ مُسلمٍ عليها.

سُقوط سلطنة سلاجقة الروم واستقلال الإمارة العُثمانيَّة

تطلَّع عُثمان، بعد انتصاراته المُتعددة، إلى التمدُّد على محورين، وذلك بِهدف عزل المُدن البيزنطيَّة التي أراد فتحها، فقطع الطريق المُؤدي إلى مدينة إزنيق من الجهة الشرقيَّة، وتقدَّم من الغرب صوب لوباديون – أولوباط – وأورانوس.

ثُمَّ التفَّ حول سلسلة جبال أولوطاغ من الشمال والجنوب مُتجنبًا دُخول مدينة بورصة المُحصَّنة، فاتصل بجيرانه المُسلمين في الجنوب الشرقي. ولمَّا كانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة مُنهمكة بإخماد القلاقل والفتن في العاصمة وفي البلقان.

ومشغولة بالصدامات المُستمرَّة مع أعدائها الأقوياء في الأناضول، أمثال القرمانيين والإمارات الساحليَّة، فإنها لم تستطع، ولِمُدَّةٍ طويلة، أن تتحرَّك ضدَّ عُثمان الذي وجد نفسهُ حُرًّا في التوسُّع على حسابها.

وفي الوقت ذاته، كانت السلطنة السُلجوقيَّة الروميَّة تعيش أيَّامها الأخيرة، وقبضتها تضعف شيئًا فشيئًا على الإمارات التُركمانيَّة، وكان الإلخان المغولي محمود غازان غاضبًا على السُلطان علاء الدين كيقباد الثالث لِكثرة اشتكاء مرؤوسيه منه.

إذ كان هذا السُلطان قد شرع بتطهير بلاطه من رجال وحاشية سابقه السُلطان غيَّاث الدين مسعود بن كيكاوس، مُنتهجًا في ذلك نهجًا بالغ القساوة.

الأمر الذي نجم عنه تراجع شعبيَّته في الأوساط العسكريَّة والسياسيَّة السُلجوقيَّة، فطلبه الإلخان إلى تبريز حيثُ اغتاله وفق إحدى الروايات، وأعاد تنصيب السُلطان غيَّاث الدين مسعود بدلًا منه.

وفي روايةٍ أُخرى أنَّ جُموع المغول والتتر أغارت على بلاد آسيا الصُغرى في سنة 699هـ المُوافقة لِسنة 1300م تقريبًا، وقتلت السُلطان علاء الدين كيقباد في عاصمة مُلكه قونية.

كما قيل أنَّ غيَّاث الدين مسعود قتله بنفسه طمعًا بِعودة المُلك إليه. وقيل أيضًا أنَّ علاء الدين كيقباد نجا بنفسه والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطي واحتمى في بلاطه إلى أن أدركه الموت.

وبجميع الأحوال فإنَّ سلطنة غيَّاث الدين مسعود كانت قصيرة ودامت ما بين 4 و6 سنوات، وعندما توفي زالت معهُ سلطنة سلاجقة الروم نهائيًّا، وقيل أيضًا أنَّ المغول قتلوه وقضوا على دولته، فاتحين المجال للإمارات التُركمانيَّة بالاستقلال.

معركة بافيوس

بعد أن استتب الأمر لِعُثمان وضمن استقلاله بشؤون البلاد سواء التي فتحها أو التي وُلّي عليها، اشتغل في تنظيمها وترتيب أُمورها حتَّى إذا أمن اضطرابها أرسل إلى جميع أُمراء الروم بِبلاد آسيا الصُغرى يُخيِّرهم بين ثلاثة أُمور: الإسلام أو الجزية أو الحرب.

فأسلم بعضهم وفي مُقدمتهم «كوسه ميخائيل» صديق عُثمان القديم، الذي صار من أخصائه، وبقيت ذُريَّته مشهورة في التاريخ العُثماني باسم عائلة «ميخائيل أوغلي».

وقبل البعض دفع الخِراج، وقرر الباقون القتال. وتنادى هؤلاء الأُمراء البيزنطيّون في بورصة ومادانوس وأدرهنوس وكته وكستله في سنة 700هـ المُوافقة لِسنة 1301م لِتشكيل حلفٍ صليبيٍّ لِمُحاربة عُثمان.

بعد أن بدا واضحًا أنه يسعى لتضييق الخناق على بورصة، أكثر المُدن الروميَّة تحصينًا في الأناضول، تمهيدًا للاستيلاء عليها وضمها إلى مُمتلكاته.

وبعد أن ضايق العثمانيّون مدينة نيقوميدية وسيطروا على حُقول الحنطة المُجاورة لها، الأمر الذي حرمها من موردٍ معيشيٍّ فائق الأهميَّة.

واستجاب الروم لِهذا النداء وتحالفت الإمارات الروميَّة الأناضوليَّة الباقية للقضاء على الدولة الناشئة. وفي ربيع سنة 1302م زحف الإمبراطور البيزنطي ميخائيل التاسع برجاله حتَّى وصل جنوب منطقة مغنيسيا وهو يعتزم الاشتباك مع العُثمانيين وطردهم من مناطق التُخوم.

لكنَّ قادة جيشه أثنوه عن فعل ذلك بسبب ما تبادر لهم عن تحضيرات العُثمانيين وكفائتهم القتاليَّة العالية وجهًا لوجه، وفي الواقع فإنَّ العُثمانيّون تجنّبوا القتال مع البيزنطيين لمَّا رأوا حشدهم الضخم.

لكنَّهم استمروا بالإغارة على البلدات والمواقع البيزنطيَّة الصغيرة وانتزعوها الواحدة تلو الأُخرى حتَّى طوَّقوا الإمبراطور البيزنطي وعزلوه في مغنيسيا، فتفكك جيشه دون قتال.

وانسحب الروم عائدين إلى القُسطنطينيَّة، فيما آثر بعضهم البقاء والقتال مع إخوانهم ودفع المُسلمين عن آخر ما تبقّى للروم من حُصون في آسيا الصُغرى.

فتح بورصة

ركَّز عُثمان جُهوده بعد ذلك على المُدن الكبيرة المعزولة، ورأى أن يبدأ بِفتح مدينة بورصة، فبنى بالقُرب منها قلعتين تُشرفان عليها وتُحيطان بها، (وفي إحدى الروايات ثلاثة حُصون)، إحداهُما في «قابلجه» والثانية على سفح جبل أولوطاغ.

وعهد بالقلعة الأولى إلى آق تيمور، والثانية إلى أحد أُمرائه، وهو «بلبان» أو «بلبانجق بك». استمرَّ الحصار العُثماني لِبورصة ما بين 10 و11 سنة، ويرجع طول الحصار إلى عدم امتلاك العُثمانيين أيَّة أدوات حصار في تلك الفترة من تاريخهم.

كما أنَّ المدينة نفسها كانت حصينة ومنيعة، إذ حمتها قلعة يبلغ طولها 3400 متر تحتوي على 14 بُرج مراقبة و6 أبواب ضخمة، وكان هناك سورين سميكين في المنطقة الواقعة تحت جبل أولوطاغ.

وأثناء استمرار عمليَّة الحصار، قام عُثمان وقادته بتطهير جوار الإمارة من بقايا الحُصون الروميَّة، ففتحوها الواحد تلو الأُخرى، ودخل بعض قادة تلك الحُصون مع حامياتهم في خدمة عُثمان، وأسلم البعضُ منهم فيما بقي البعض الآخر على المسيحيَّة.

وفي تلك الفترة أُصيب عُثمان بِداء النٌقطة (الصرع)، فبدا واضحًا أنه لم يعد قادرًا على قيادة حصار المدينة بنفسه، فعهد إلى ابنه أورخان باستكمال الأمر، واعتزل هو الخُروج مع الجُيوش ولازم دياره.

واستمرَّ حصار أورخان للمدينة دون أي قتالٍ أو حرب، لكنَّه تابع عزلها عن مُحيطها، ففتح مودانيا قاطعًا صلة المدينة بالبحر، ثُمَّ فتح بلدة «پرونتكوس» في الساحل الجنوبي لِإزميد، وغيَّر اسمها إلى «قره مُرسل» تيمنًا باسم فاتحها «قره مُرسل بك»، كما فتح بلدة «أدرانوس» أو «أدرنوس» الواقعة جنوب بورصة على قمة جبل أناضولي طاغ.

والتي وُصفت بأنها مفتاح المدينة، وسُميت «أورخان ألي».

ضيَّق العُثمانيّون الحصار على المدينة حتَّى دبَّ اليأس في قلب حاكمها وحاميتها، وأيقن الإمبراطور البيزنطي أنَّ سُقوطها في أيدي المُسلمين مسألة وقتٍ لا أكثر، فاتخذ قرارًا صعبًا.

وأمر عامله عليها بإخلائها، ففعل، وانسحبت الحامية البيزنطيَّة من المدينة، ودخلها أورخان يوم 2 جُمادى الأولى 726هـ المُوافق فيه 6 نيسان (أبريل) 1326م، ولم يتعرَّض لأهلها بِسُوء بعد أن أقرّوا بالسيادة العُثمانيَّة وتعهدوا بدفع الجزية.

واستسلم صاحب المدينة المدعو «أقرينوس» إلى أورخان، ثُمَّ أشهر إسلامه أمامه وبايع أباه عُثمان ودخل في طاعته، فأُعطي لقب «بك» إكرامًا له وتقديرًا لما أبداه من شجاعةٍ وصبرٍ خِلال الحصار الطويل، وأصبح من قادة الدولة العُثمانيَّة البارزين فيما بعد.

وتأثر به عددٌ آخر من قادة الروم الذين بقوا في المدينة وحُصونها المُجاورة، فأشهروا إسلامهم وانضموا تحت لواء العُثمانيين. وبهذا فُتحت بورصة بعد طول انتظار، وأسرع أورخان عائدًا إلى سُكود لينقل الخبر إلى والده.

وفاته

كان عُثمان يُعاني من داء المفاصل أو النقرس إلى جانب الصرع الذي أُصيب به في سنواته الأخيرة. ويُرجَّح أنَّ وفاته جاءت نتيجةً للنقرس. ومما يؤكد ذلك ما ذكره عاشق باشا زاده في مؤلَّفه عندما تحدث عن الفترة الأخيرة من حياة عُثمان الأوَّل، فقال: «كَانَ ثَمَّةَ عَطَب فِي قَدَمِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَأَلَّمُ مِنهَا».

وكان الكاتب نفسه قد استعمل التعبير ذاته عند حديثه عن وفاة السُلطان مُحمَّد الفاتح، فقال: «سَبَبُ وَفَاتِهِ عِلَّةٌ فِي قَدَمِهِ». ومن المعروف أنَّ النقرس كان مرضًا وراثيًّا في الأُسرة العُثمانيَّة، وعانى منه الكثير من السلاطين.

ولمَّا بلغ أورخان سُكود استُدعي على الفور إلى والده، فوجده في حالة النزاع، ولم يلبث أن أسلم الروح بعد أن أوصى بالمُلك من بعده لأورخان، وهو ثاني أولاده.

بعد أن رآه أفضل وأكثر تهيُئًا لِزعامة الإمارة وقيادة الدولة من أخيه الأكبر علاء الدين، الذي اتصف بالورع الديني وميله إلى العُزلة. واختلف المُؤرخون في تحديد موعد وفاة عُثمان، فقيل أنه توفي يوم 21 رمضان 726هـ المُوافق فيه 21 آب (أغسطس) 1326م، ولهُ من العُمر سبعين سنة.

وقال المؤرخ العُثماني روحي چلبي الذي عاش خلال القرن الخامس عشر الميلاديّ ودوَّن تاريخ الدولة العثمانية حتى سنة 1481م في كتابه حامل عنوان «تورايخ آل عُثمان» أنَّ وفاة عُثمان الغازي كانت سنة 1320م.

ووفقًا لِلمُؤرخ أوروچ بن عادل الذي عاش في عهد مُحمَّد الفاتح وبايزيد الثاني حتى سنة 1502م فإنَّ عُثمان توفي في سنة 1327م. ويذكر المُؤرخ التُركي المُعاصر نجدت سقَّا أوغلي أنه على الرُغم من عدم وُجود وثائق تذكر اسم عُثمان بعد سنة 1320م.

فإن هُناك وثائق تؤكد تولّي أورخان الإمارة في سنة 1324م، واعتمادًا على ذلك فإنَّ وفاة عُثمان غازي تكون قد وقعت في ذات السنة سالِفة الذكر وفق هذا الرأي.

من المُؤكَّد أنَّ وفاة عُثمان كانت بعد وفاة حميه الشيخ «إده بالي» بِثلاثة أو أربعة أشهر، وبعد وفاة زوجته مال خاتون بِشهرين. ومن المعروف أنه دفنهُما بيديه في بيله جك.

وعندما وافته المنيَّة دُفن في سُكود بدايةً، ثُمَّ أمر السُلطان أورخان بِنقل جُثمانه إلى بورصة، التي اتخذها عاصمةً له، ودفنهُ فيها، وقبره كائنٌ اليوم في حي «طوبخانه».

ويرجعُ سبب نقل الجُثمان إلى وصيَّة عُثمان التي كتبها قبل مماته: «يَا بُنَيَّ، عِندَمَا أَمُوتُ ضَعْنِي تَحْتَ تِلكَ القِبَّةِ الفِضِّيَةِ فِي بُورُصَة».

ولكنَّ قبرهُ الحالي يعود إلى عهد السُلطان عبدُ العزيز، فقد تهدَّم القبرُ الأوَّل تمامًا في زلزالٍ شديدٍ ضرب المنطقة سنة 1855م، فأعاد السُلطان سالِف الذِكر بناءه، كما أمر السُلطان عبدُ الحميد الثاني ببناء مقام في سُكود حيثُ دُفن عُثمان للمرَّة الأولى.

وصيَّته

قبر عُثمان الأوَّل في مدينة بورصة، تنصُّ المصادر العُثمانيَّة أنَّ عُثمانًا ترك وصيَّةً مكتوبة لِولده أورخان يوصيه فيها بإكمال مسيرة الغزو والجهاد ضدَّ الروم.

وأن يلتزم بتعاليم الشريعة الإسلاميَّة ويُلازم العُلماء ويعدل مع الرعيَّة ويُخلص إلى الإسلام ورسالته. كما تضمَّت وصيَّته بعض النصائح إلى سائر أبناءه وإلى رفاق دربه الذين شهدوا معه كُل الغزوات أو مُعظمها.

أبو الطماير في باب الحارة وأبو ماجد الحلاق في ليالي الصالحية .. قصة الفنان داوود الشامي وحكايته مع الكاميرا الخفية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى